مدرس اون لايندخول

عن الشعر الغنائي

موضوع الشعر الغنائي
remove_circleمواضيع مماثلة
avatar
لقد اختلف القدامَى والمحدثين في تحديد الشعر الغنائي، فانطلق الفريق الأول من شكله الخارجي وانطلق الفريق الثاني من المضمون في التعريف به؛ وذلك لأن القدامى كانوا يتغنون الشعر فيرتبون أبيتها بطريقة تيسر لهم أنشاده وترتيله، في حين يرى البعض أنه تعبير عن ما في قلب الإنسان من عاطفة وأحاسيس متتالية ينسج عنها قصائد غنائية تنبع من صميم قلب الشاعر؛ لتصل إلى قلب المتلقي.
ويمتاز الشعر الغنائي بحرارته وتأثيره في المتلقي، ويشبع فيه التفجير الداخلي والطفرات اللفظية. يمتاز الشعر الغنائي كغيره من أنماط الشعر عند وصفه شيئًا معينًا لا يقتصر على الجانب المادي وحده؛ لأن عاطفته وطموحه يتجاوزان الإحساس بالواقع، بل يسعى لبلوغ سر الأسباب ويصبح شعره نوعًا من ارتياد إلى عوالم ما وراء الطبيعة، يرسم ملامحها وحدودها وساكنيها، ويعيش في هذه العوالم في قصيدته التي دائمًا ما تكون في حبيب أو أخ، أو شخص غائب عن النظر، فيعيش معه في القصيدة.
مر الشعر الغنائي كغيره من أنواع الشعر العربي بمراحل متعددة، فقد كان الشعر الغنائي في أوجة ازدهاره في العصر الجاهلي كغيره من أنواع الشعر العربي، فيعتبر المراقبون والباحثون أن هذا العصر هو العصر الذهبي للشعر الغنائي، فقد كان يتسابق الشعراء في البحث عن الجودة والمنافسة في زمن كان الشاعر يعادل ألفًا من جنود القبيلة في المعركة؛ لما لهذا الفن من تأثير في نفوس المتلقين وسهوله أثارت عواطفهم.
ومن أشهر شعراء هذا العصر عدي بن ربيعة التغلبي، الذي لقب بزير النساء؛ لكثره مجالسته النساء، وكان يقضي أيامه في اللهو وشرب الخمر، وقد قدم قصيدة في رثاء أخيه كليب بعدما قُتل وشبت معركة الأربعين عامًا، وهي حرب البسوس يقول فيها:
أبكي والنجوم مطلعات كان لم تحوها عني البحار
على مَن لو نعيت وكان حيًّا لقاد الخيل يحجبها الغبار
ومن شاعرات العصر الجاهلي كانت الخنساء، وهي أم عمرو بنت عمرو بن الشريد السلمية، كتبت لها ديوانًا في رثاء أخويها معاوية وصخر بعد مقتلهما، فتجد في هذا الديوان عبارة عن مأتم يسمع فيه عويل النائمات وندب النادبات، وهو ديوان امرأة أُصيبت في الصميم، وفقدت مَن تحب في معركة تقول في أبيات ترثي فيها أخيها صخرًا، وهو الأخ الطيب المقرب إلى قلبها:
فلا والله لا أنساك حتى أفارق مهجتي ويشق رمسي
فيا لهفي عليه ولهف أمي أيصبح في الضريح وفية يمسي
وهنالك العديد من عظماء الشعر الغنائي أمثال قس بن ساعدة.
وبعد ولادة الإسلام في شبة الجزيرة العربية، تحولت الذائقة عن الشعر واهتمت بنوع ليس بجديد ولكن كان مهمشًا "فن الخطابة" فقد حل محل الشعر، فأثار عواطف المتلقين وشحذ الهمم، ولكن الشعر الغنائي لم يتأثر بهذه الموجة من التغيير، بل على العكس بقي يتربع قمة الهرم، وعلى مستوى الرقي نفسه.
ومن أشهر شعراء العرب المسلمين حطان بن المعلي، وكان له ديوان يسمى "الحماسة" ومتمم بن نويرة وهو من الصحابة، ومن أشراف قومه، اشتهر في العصر الجاهلي وعصر صدر الإسلام، قتل إخوة في معركة الردة وهو يقول في أبياته عندما مَرَّ على قبر إخوة مالك، وبكَى، فشاهد بعض القوم وقالوا له: أنت تبكي؟!
لقد لامني عند القبور على البكا صديقي لتذراف الدموع السوافكِ
يقول: أتبكي كل القبور رأيته لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك
فقلت له إن الشجا يبعث الشجا فــدعني فهذا كـله قبر مالك
أما في العصر الأموي فلم يتغير الشعر عن حاله، بل أصبح شعراؤهم يهيمون في بلاد الغربية بعد أن هُدِرت دماؤهم من قِبل قبائلهم وملوكهم؛ لأن الشاعر عندما كان يقع في الحب يتغزل في مدح حبيبته، وهذا ما جعل منهم متشردين هاربين من القتل، وهذا ما حجم الشعر الغنائي ووضعه في مساحة ضيقة لا تليق بهذا الشعر الذي استمر ملايين السنين.
ومن أشهر الشعراء هذا العصر جميل بثينة، وهو جميل بن عبد الله بن معمر، وكان من قبيلة تشتهر بالجمال والعشق، أحب قريبته "بُثينة" فنسب إليها وهُدر دمه بعد هذا الحب؛ ليهرب إلى مصر.
لقد فرح الواشون أن صَرَمت حَبلي بثينة أو أبدت لنا جانبَ البخل
يقولون مهلًا يا جميل وإنني لأقسم ما لي عن بُثينة من مَهل
ومن شعراء هذا العصر قيس بن الملوح بن مزاحم العامري "مجنون ليلى" وقد كان يعشق ليلى حتى جن من العشق، وبعدما تقدم لها رفض أهلها الزواج به؛ لأنه كان يذكرها في أشعاره، فتزوجت برجل آخرَ، وأصبح يتردد عليها وهي متزوجة، حتى علم أهلها، فأخبروا السلطان فهدر دمه، وهرب إلى الحجاز، وهنالك مات وحدَه على جبل من الصخور في عام 688م.
وبعد أن كان الملوك يستحلون دماء الشعراء جاء عصر يمجدهم ويخلدهم، جاء العصر العباسي الذي جعل مِن بغدادَ عاصمةً للخلافة الإسلامية، ومركزًا وقِبلةً لطلبة العلم والعلوم، وساحةً يتبارز فيها الشعراء بشعرهم.
ومن أشهر شعراء هذا العصر الشريف الرضي، والعباس بن الأحنف، وأبو فِراس الحمداني، ومن أشهر قصائده:

أقول وقد ناحت بقربي حمامة أيَا جارتا هل تشعرين بحالي؟
معاذَ الهوى ما ذُقت طارقةَ النوى ولا خطرَت منكِ الهمومُ ببالِ
ومن رواد شعراء هذا العصر المتنبي وابن الرومي.
أما في العصر الحديث فقد كان الكل يبحث عن التغيير، حتى طال هذا اللون من الشعر، ومر بمراحل تغيرٍ طفيفةٍ، حتى أصبح على ما هو عليه من أنواع متعددة والألوان مختلفة، ولكنه لم يفقد بريقه بين أنواع الشعر خاصةً وباقي الفنون عامةً، بل استمر بصموده ورواده المتجددين مع كل عصر البقاء في قمة الهرم الشعري.
ومن أشهر شعراء هذا العصر: أبو القاسم الشابي، والشاعر القروي، والأخطل الصغير اللبناني، والشاعر العراقي بدر شاكر السياب، والشاعر خليل مطران، وأمير الشعراء أحمد شوقي، وإبراهيم ناجي، وإيليا أبو ماضي، وعدد كبير من الشعراء. وقصائد غنائية لشعراء لم يُذكر أسماؤهم، فقد كان هذا العصر ازدهارًا للشعر الغنائي بسبب التحرر وتلاشي التقاليد القبلية.
عدت يا يوم مولدي
عدت أيها الشقي
الصبا ضاع من يدي
وغزا الشيب مفرقي
ليت - يا يوم مولدي
كنت يومًا بلا غد !!!
أنا عمرٌ بلَا شباب
وحياة بلَا ربيع
أشتري الحب
بالعذاب !!
فمَن يبيع؟!
ع1:
معنى الشعر الغنائي وماهيته
avatar

إنّ بحث الغنائيْة هو مغامرةٌ بحدّ ذاتها؛ لأنّ مثل هذا البحث يستلزم العبورَ في مسارٍ طويلٍ ومتشعّبٍ يقودنا، رأسًا، إلى غمار التجربة الجاهلية الّتي يتوقّف عليها فهْمُ خصوصيّات الشعر العربي، والقضايا النوعيّة التي ارتبطت به، إنتاجًا وتلقّيًا.
واليوم، نفهم لماذا نُعِت الشعر العربي بأنّه "شعر غنائيّ"، ولا سيّما من المستشرقين المتأثّرين بالإرث الأرسطي -نسبة إلى أرسطو طاليس- أو بالأحرى بالثلاثيّة اليونانية المنسوبة إلى أرسطو: ملحمي، تراجيدي، غنائي. وإذا كان ذلك اكْتِشافًا في سياق اهتمامهم بـ"الآخر الشعري"، إلّا أنّه سرعان ما أصبح حجابًا يُغطّي أكثر ممّا يكشف، بعدما صار يُقْصد ب"الغنائي" -الّذي لم يرِدْ ذكره في كتب القدماء من نقّاد وبلاغيّين- البعد العاطفي أو الوجداني الصرف، حتّى غدت كلّ قصيدة رومانسيّة أو وجدانية غارقة في "السنتيمنتاليّة" أو عاطفية تحاكي الموسيقي وتسعي إلى الطرب والتطريب قصيدةً غنائيّةً.
وليس بتلك الّتي يمكن أن تتجاوز ذلك إلى أوضاع شعريّة تتأرجح بين "المطلق" و"الملحمي" كما تُرشدنا إلى ذلك قصائد من الشعر القديم والحديث على السواء. وقد أشاع مثل هذا الفهم الخاطئ والمضلِّل -فيما بعد- الجهلة بعلم الشعر، وكتبة قصيدة النثر العربية المجاهرون بعدائهم الشديد للغنائية، الذين يرون فيها عودة إلى الوراء وكُفرًا بالتقدم الذي حقّقته الحداثة؛ لأنّها -في نظرهم- مفرطة في الموسيقيّة، وذاتية، وحماسية، أو جياشة المشاعر!
من هنا، ورفْعًا لكثير اللّبس وليس اللّبْس كلّه، نُعيد إدماج موضوع الغنائيّة في إشكاليْة جديدة تضيء الوضعيّة الإبستيمولوجيّة لها من حيث مفهومها ومحدّداتها، سعيًا وراء نمذجتها أو، بالأحرى، محاولة نمذجتها.
2- إستشكال الغنائيّة:
نُقارِب الغنائيّة كخطاب شعريّ تتحدّد بنياتُه وفق المبدأ الأنواعي الّذي ينتظمها، مُحترسين من أن نُماثل الغنائية بالشعر أو بالقصيدة تحديدًا، بعدما كان يلوح دائمًا أنّ القصيدة الغنائية تختصر الشعر بأسره، أو هي تسميته الأخرى، بسببٍ من عراقته في الإمبراطوريّات الشعرية الباذخة، ومن هيمنته في جميع الثقافات الشفوية والمكتوبة، ثمّ من عودته المظفّرة داخل التأويل الرومانسي بعد أن صار "هو الشعر الأكثر سموًّا وتميُّزًا عن غيره" في تعريف سْتِوارْتْ ميلْ. وما زلنا نرى -منذ ما يزيد عن قرن - أنّ هذا الشعر الأكثر سموًّا وتميزًا هو تحديدًا نمط الشعر الذي ألغاه أرسطو من كتابه "فنّ الشعر". بالنتيجة، كان سؤال الإشكالية: ما هي القصيدة الغنائية؟ يحلّ محلّ السؤال: ما هو الشعر؟
إنّ مفهوم الغنائية في الشّعر، شأنه شأن المفاهيم الأكثر شيوعًا واستخدامًا، يكتنفه اللّبس والغموض، وقد وجدنا كم كانت تتضارب الآراء في تلقّي الشعر الغنائي من حيث خصيصته النوعية ووضعه تجاه باقي أنواع القول الشعري والبليغ عامة، فمنهما ما أعرض عن محاولات تعريفها أو تحديد طبيعتها العامة؛ لأنّ ذلك لن يجلب إلّا تعميمات تزيد الإشكالية تعقيدًا، ومنها ما كان يسعى إلى تعريفها عبر عرض الخصائص الأخرى التي لا تمتّ إليها بصلة، كما في رأي نورثروب فراي، مثلما لا ننسَى فرضيّة سابير هورف المثيرة للنّظر: قد نضطرّ إلى إهمال بعض أبعاد الشعر الغنائي، لأننا ببساطة لا نملك مفردات حريّة بالخوض فيها؛ بل إنّ بعض المعاصرين ينظر إلى الغنائية على أنّها "مصطلح مستنفد"، أو يُصرّح بـ"احتراق الغنائية" أو "أفولها في ظلّ صعود الشعر الدرامي.
وتزداد وضعيّة الغنائية في السياق العربي تعقيدًا، وذلك لمّا تماهت الغنائيّة بالشعر، وهو ما ألمح إليه جمال الدين بن الشيخ، الّذي خصّ الإنسكلوبيديا العالمية بمقالة لمّاحة حول الغنائيّة العربية، بقوله: إلى حدود القرن العشرين للميلاد، ظلّ الأدب العربي ينْتسِبُ في جوهره للشّعر، ويلتبس تطوُّر الغنائيّة مع تاريخ الشّعر، تلك الّتي تجدها تعبيرها الأكثر تمثيلًا في القصيدة.
تَفرض مثل هذه الاعتبارات جملةً من الأسئلة في سياق بحث الغنائية، من مثل:
- هل يمكن بحث "المسألة الأنواعية" للغنائية في الشعر دون تحديد مفهوم النوع الغنائي؟
- هل يمكن القول بـ"أنواعيّة العنائية" دون إدراكٍ لغيْرها من أنواع الأدب داخل الثلاثية اليونانية المأثورة عن أرسطو؟ ثمّ داخل القسمة العربية التقليدية: شعر ونثر؟
- إلى أيّ حدّ نتقدّم في البحث من غير أن نستدعي خصائص الغنائية ومقوِّمات تكوين نسقها الدّاخلي، من مثل البناء والإيقاع والنظام التلفّظي والنفسي والتيمات، ومن ثَمّ أن نستوعب البنيات النصّية الجامعة للغنائيّة، والمميِّزة لها عن غيرها؟
- كيف تتمظهر الغنائية في شعرنا العربي، في ضوء التحوُّلات التي طالت القصيدة وأطرها الفنّية؟
- كيف نتلقّى نصوصًا من الشعر العربي الحديث والمعاصر لا تُعلن عن نفسها بسهولة؟
- ألا يستوجب وضع المفهوم تعيين نمذجة أنواعيّة قادرة على تمثُّل واستيعاب اختلاف النصوص الشعرية وتعدّدها؟
نثير هذه الأسئلة بغرض الوعي بالوضعيّة الإبستيمولوجية للغنائية، خارج أيّ ادِّعاء بالتبسيط والاستسهال. وإذا ليس بوسعنا، في هذا المكان، أن نخوض في هذه الأسئلة المستشكِلة لموضوع الغنائية، فإنّنا نسنح الفرصة للملمة بعض القضايا المنهجيّة والمعرفية الّتي نرى أنّ لها أولويّةً، ولما في اعتبار من أجل المساهمة في تحديد مفهوم الغنائية وخواصّها ومقوّمات بنائها الداخلي.
3- الغنائيّ والغنائيَّة:
لا نعثر على ذكْرٍ للغنائية كغرض أو نوْع في تصنيفات القدماء في الشعر العربي، إلّا ما يتّصل بالغناء في حالة إنشاد القصيدة كما هو مأثورٌ عن الشاعر حسان بن ثابت في قوله:
تَغنَّ بالشعرِ إمـَّا كنتَ قائلـَهُ إنَّ الغناءَ لهذا الشعر ِ مضمارُ
ما دام أنّ تصوّر هؤلاء لم ينْبَنِ على مقولة الأنواع أكثر ممّا قام على مقولاتٍ أغراضيّة وعروضيّة. لقد انتسبتْ مقولة "الغنائي" إلى الثلاثية اليونانية: ملحمي، تراجيدي، غنائي، حتّى وإن كان أرسطو نفسه لم يدمجْها في استراتيجيّة بنائه للأنواع التي بدتْ له مائزةً في عصره كالمأساة والملهاة والملحمة. لذلك، يظهر أنّ تاريخ تداول "الغنائيّة" و"النوع الغنائي" في الشعر بدأ فعليًّا مع الإرث ما بعد الأرسطي، واتّسع مع صعود الرومانسية بأوربا، ولا سيّما في ألمانيا وفرنسا.
في تعدُّد التفسيرات المختلفة للثُّلاثية لمْ يُفْضِ الأمر إلى تحديدٍ واضحٍ ودقيق للشعر الغنائي الّذي ظلّ يُعرف بتحديدٍ موضوعيٍّ هو، غالبًا، ترجمة للأحاسيس والعواطف، ولم تُحدَّد له -عكس الملحمة والدراما،- صيغة خاصّة أكثر منها عائمة وسلبية كلّ ما ليس سرديًّا أو دراميًّا. ويلتبس الفهم أكثر في ثقافتنا الشعرية لمّا أُعيد تداول وإنتاج المقولة بصيَغٍ فضفاضة ومتعدّدة لدى العديد من الشعراء ونقّاد الشعر، بدءًا من الاتّجاهات المحسوبة على المذهب الرومانسي، حيث تمّ مماثلة الغنائيّ بمقولات الوجداني والذاتي والعاطفي.
وفي ظلّ تطوُّر الدراسات الحديثة داخل نظريّات الأنواع الأدبية وتحليل الخطاب والشعريّة، أنجزها نقّادٌ أوربيّون جيرار جينيت، تزفيتان تودوروف، كيت هامبورغر، جان ماري شيفر،إلخ، طُرحت تصوّرات مغايرة ومتقدّمة أعادت قراءة الغنائية، فبدل أن يُستبدل التقسيم الثلاثي الملحمي -الدرامي- الغنائي بالتعارض القديم بين الشعري والنثري، يُفضي الأمر اختزالًا إلى تقسيمٍ ثُنائي: محاكاة وتخييل، على أساس السّردي.
هكذا يُرجع الغنائي -المصطلح الثالث من الثلاثية- إلى مقولة النوع "غير التخييلي" الّذي يتحدّد بأنّ أنا - الأصل- فيه هو الشاعر نفسه، ذلك الذي يتكلّم في خطابه بـ"ملفوظٍ واقعيّ" لا بـ"ملفوظ تخييلي"؛ وبالنتيجة، يُرجع الأنا الغنائي إلى التلفّظ التاريخي أو المرجعي. ويستتبع ذلك تحليل طرائق بناء الملفوظ في ضوء الخيارات الأسلوبية والجمالية الّتي تحتمي بها الذّات في تنظيم دوالّ القصيدة وقيمها المهيمنة الخاصّة بإنتاج خطابها الشعري، وهو ما يقودنا إلى اعتبار مقولة الغنائيّ تتوكّأ عليها التجربة الجمالية، ولا تسهم إلّا بالحدّ الذي يُحدّد هويَّة النص. فكما أنّ تصوُّر "الدرامي" يُسهم، بديهيًّا، في التعرُّف على العمل كمسرحية، يكون "الغنائي" هو الوظيفة المهيمنة في الشعر.
4- السّمات العامة للغنائية:
من هنا، وبمنأى عن كلّ وثوقيَّة، نصدر عن فَهْمٍ يرى إلى النوع الغنائي من خلال السّمات التي ينشأ عنها مثل باقي الأنواع، ويمكن للقارئ أن يحدسها وإن كان يجد صعوبةً في تبرير تصوُّره، لكنّ القول بأن هذا العمل "درامي" أو "ملحمي" أو "غنائي" يتجاوز كثيرًا ميدان القراءة المباشرة، ويُقيم في ذاته الفعل النقدي المستند على المعارف التاريخية والنظرية. هذه السمات الّتي تُجْمل -بهذه الدرجة أو تلك- النوع الغنائي، أو بالأحرى القصيدة الغنائية، هي:
أوّلًا: أنْ تأتي القصيدة في العموم قصيرةً وموجزةً وبالغة الكثافة، لكنّها قد تزيد على ذلك إذا رأى الشاعر فيه بلورةً لصوته الإنشادي وموقفه الغنائي داخل القصيدة ومعماريّتها العامة.
ثانيًا: أنْ تعبّر عن "الأنا -الأصل- للشاعر الّذي يتكلّم بقدر ما يُفصح عن تجربته الداخلية، صوته الداخلي، عالمه الداخلي بكلّ ما يفضّ عنه من روح جيّاشة في التعبير.
ثالثًا: أنّ تتحرّك في سياق نوعيّ ومتنوِّع من التيمات والرؤى المنتجة للمعنى الشعري، التي تستدخلها أنا الشاعر الحبّ، الرثاء، الإشراق الصوفي، سخاء الطبيعة، مجالس اللّذة والشراب،إلخ.
رابعًا: أن تنقل مجمل القيم الخاصّة بإنتاج "كوْنٍ دلاليٍّ" يفتح الأنا الغنائي على الأشياء والعالم، فلا تُقيم فصلًا بين الداخل والخارج، الذّات والآخر، المحسوس والمجرَّد في مزيجٍ خلّاقٍ يخلق وحدة الموضوع، ووحدة البناء، ووحدة الانطباع المتأتّاة من ذلك جميعًا.
خامسًا: أن تكون شفّافةً وعالية التركيز في تدبير نسقها الدّاخلي، لأنّ القصيدة الغنائية تبقى قريبة من الغناء، ومن شفافيّة الغناء بالنّظر إلى نوعيّة بنائها المعماري ككلّ.
سادسًا: أن يأخذ فيها الإيقاع وضع "الدالّ الأكبر"، لأنّه ينظّم معنى الذّات في خطابها، ويُنْقذ البناء النصّي من التبعثُر والتفكُّك عبر آليّات التكرار والتقفية والتوازي والهندسة الصوتية وتذويت الدّلالة.
سابعًا: أن تتخفّف من "الملفوظ التمثيلي"، ومن السّردي الّذي قد يُشيع الروح الدراميّة داخل النصّ، وإن كان ذلك لا يمنع أن تهجر نقاءَها الأنواعي، فتستثمر "الملحمي" في علاقتها بالتاريخ والأسطورة والرمز. ولقد رأينا قصائد كثيرة حملت دلالاتٍ وأبعادٍ غنائيّة جديدة ضمن سياق النص الشعري العربي الحديث وثقافته الجديدة.
إنّ هذه السمات استدلاليّة مشتركة بين نصوص "الغنائيّة" في الشعر، وإذا كانت تمثِّل حدًّا معقولًا من تمثيليّتها ونجاعتها، فهي مع ذلك لا تزعم الإلمام بها، بالنّظر إلى اختلاف تقاليد الكتابة والأسلوب، إذ لكلّ شاعر حقيقيّ أسلوبه، أي: عالمه الخاصّ.
تتجاوز الإشكالية المستوى الأنواعي الكلاسيكي المتمثّل في المقارنة بين الشعر والنثر، وتصنيف الشعر ضمن تصنيفات الأدب، إلى مساءلة النسق الأنواعي الداخلي للغنائيَّة ذاتها، ما دُمْنا نعتبر النوع الغنائي ليس سلطة معياريّة قبلية ولا تاريخيّة متعالية على الزمن، لأنّ النوع ذاته نسق داخليّ متحوّل لا يوجد إلّا من خلال النصوص التي تعْبُرها وتُعبّر عنها الذّات في تنظيم معناها داخل الخطاب.
5- الغنائيّة بوصفها خطابًا:
إنّ استشكال الغنائيَّة، وتبعًا للمفاهيم والمقولات المحدّدة له، يدعونا إلى تبنّي مفهوم الخطاب لنقرأ به أشكال الطرائق الّتي تسند تدبير المبدأ الأنواعي الأنواعي للغنائية في الشعر. إنّ الخطاب هنا، استراتيجية. من جهةٍ أولى يجعل الخطابُ نصَّ الغنائية مُنْدرجًا في نسق أكبر منه وهو النوع الأدبيّ بالقياس إلى التزام النصّ بقواعده والسمات المكوِّنة له، ومن جهة أخرى يُحيلنا الخطاب على سياقه التلفُّظي المفرد باعتباره مفتوحًا على وضعيّات التواصل ومقاصد التلقّي والتأويل. إلى ذلك، علينا أن نُراعي بنية الخطاب في الشعر تحديدًا، التي تحمل في ذاتها -بما هي مكوِّن دلاليّ- عناصر تكرارها أو عناصر انحلالها وزوالها.
فعناصر التكرار تُدْرك من خلال ما بين أجزاء البنية الدلالية من علاقات ارتباطية يقتضيها منطق النصّ، ويستدعيها أيضًا مبدأ الانسجام ليس باعتباره من مبادئ النصّ المنجز، بل هو من مبادئ الخطاب لمقايسة شعريّة النص من عدمها.
إنّنا لمّا ننظر إلى الغنائية بوصفها خطابًا، يُراد منّا أن نبحث في بنْيته التي توجِّهها البنيات النصّية. وإذا كان التزام النصوص الشعرية ببنيات النوع الغنائي ليس التزامًا كلّيًّا ولا زمنيًّا، فإنّه يحدث أن تخرج النصوص، أو تحاول أن تخرج عن مقتضياته جزئيًّا أو شبهًا كلّيًّا، بحسب أنساق الكتابة وشروط إنتاجها وتلقّيها، كما هو الحال في الخروج على المقدّمات الطللية، أو في الخروج على النمط الأصلي للبيت الشعري، أو في خروج تنويعات الأسلوب الشعري على التئام الذّات وأحاديّة الشكل الكتابي.
ويجدر بنا هنا أن نعي بأنّ اشتغال الغنائية أكثر من وظيفتها لا يتحدّد إلّا داخل خطابها الخاصّ، أي: جميع القيم والخصائص المهيمنة الخاصّة بها، وهي:
6- الذّات:
تُشكّل الذَّات عصبَ الغنائية وحافزَ انبنائها داخليًّا، وقد شاع في نظريّة الأنواع الأدبية: أنّ الشعر الغنائي هو شخصية الشاعر نفسها، أو هو الأثر الأدبي الذي يتكلم فيه الشاعر بمفرده، ولذلك فإنّ الذي يتكلم في الشعر الغنائي إنّما هو الشاعر وأناه الأصلية الّتي ترتبط بـ"ملفوظٍ واقعيٍّ". فإذا كان كلّ ملفوظٍ "واقعيّ" على نحو خاصّ، فإنّ "واقع" الملفوظ ينشدّ إلى تلفُّظه من خلال الذّات الحقيقية والأصلية.
هذا ما تُفيدنا به نظرية التلفّظ. يكتب كيت هامبورغر: "إنّ اللغة الإبداعية التي تُنْتج القصيدة الغنائية تنتمي إلى نظام اللغة التلفُّظي، وهو السبب الرئيسي والبنيوي الّذي من خلاله نتلقّى القصيدة باعتبارها نصًّا أدبيًّا، أكثر من كونها نصًّا تمثيليًّا، سرديًّا أو دراميًّا. نتلقّاها كملفوظٍ لذاتٍ متلفِّظة. إنّ الأنا الغنائية، حتّى وإن كان متنازَعًا حولها، هي الذّات المتلفِّظة". وفيما يخصّ الجدال حول مطابقة الأنا الغنائية بالكاتب كشخص، يؤكّد هامبورغر أن ذلك لا يتمّ إلّا في المستوى المنطقي بدون أن نحكم مسبقًا على أيّ علاقة بيوغرافية أنّى كانت، وتضيف: "بطبيعة الحال، يمكن أن تكون التجربة تخييليّةً، بيد أنّ ذات التجربة -ومعها الذات المتلفِّظة والأنا الغنائية- لا يمكن أن تكون إلّا حقيقيّةً".
وهذا ما ذهب إليه أدورنو عندما اعتبر أنّ "من يتكلّم داخل الفنّ هو ذاته الحقيقية، وليس الذّات التي تُنْتجه أو تتلقّاه". وفي عبورها من المحور اللّساني إلى الأدب، والشعر أساسًا، تمتدّ الذات من استعمال عوامل التلفُّظ إلى الانتظام في نسق الخطاب بأكمله. داخل الخطاب، تصبح الذات تاريخيّة اجتماعيًّا وفرديًّا، ومن ثمّ تتمظهر الذّات المتلفظة كعلاقة أو جدل بين الفرديّ والجمعيّ.
إنّ الذات مفهومٌ لسانيّ أدبيّ وأنثروبولوجيّ، ولن تلتبس مع مفهوم الفرد الذي هو ثقافيّ وتاريخيّ يرجع إلى تواريخ التفرّد. من هنا، يجب الحذر من الحدوس النظرية في الشعر الّتي تُحيّد اجتماعيّة الفرد -الذات- المؤلف، فإصغاء الذات هو إصغاء للجمعي بقدرما هو إصغاء للتاريخ.
وقد رأينا عبر تاريخنا الشعري الذي يظهر كحديقة ملأى بالألغاز والأسرار -بتعبير المستشرق ريجيس بلاشير- كيف أنّ الشاعر "يمنحنا ذاته في إنسانيّته وبكلِّ نقائصه، وهو في ذلك يحرص على ألّا يسحقه المجتمع الذي يعيش فيه"، لأنّ المجتمع يهابُ أو يخشى من ذات الشاعر باعتباره ممثِّلًا للفرد ورمزًا له، فيما كان هو لا يخشى المجتمع الذي ما فتئ يسعى إلى سحقه: مثلًا، ينشغل زهير بن أبي سلمى في معلَّقته بتأكيد حاجة مجتمعه لأسباب اقتصادية إلى السلم الذي راح يُفلسفه، أو حاجة عنترة العبسي إلى تأكيد ذاته وذوات كلّ العبيد في مجتمع السادة الذي كان يحول بينه بين حريّته، وإحساس طرفة بن العبد بالمفارقة الحادّة بين الحياة والموت في بيئته الوثنية، وكيف أنّ الشعراء الصعاليك بادروا إلى السلاح في وجه المجتمع الذي يُمارس تغريبًا في الحياة على ذواتهم.
كما رأينا بعد ذلك بقرون كيف امتلك السياب والبياتي ومحمود درويش وأمل دُنقل وعيًا حادًّا بالتاريخ الذي أعادوا صهره وصياغته في أفق ابتعاث الذّات الجماعية من عجزها. إلّا أنّنا نرى اليوم في شعرنا الراهن الذي ترفده قصيدة النثر، نمطًا من الذاتيّة يخرج عن أنماطها السابقة، بحيث صارت الذاتيّة تتجسّد في "الصوت الفردي الحميم، والذات الصغيرة في خوفها ولا يقينيّتها وتردُّدها، وفي أحلامها الكسيرة وتشوُّفها لعالمٍ أكثر عذوبة ورأفة وأقلّ هدير".
بهذا الاعتبار، فإنّ المظهرات الخاصّة بالذّات والذّاتية التي تنتجها الأنا الغنائية وتبلورها داخل نظامها التلفّظي، يجب أن تُحلَّل بناءً على مبدأ نسق الخطاب كاشتغال للُّغة يثوي فيه "بُعْد الحياة" من لدن هؤلاء الذين يتكلمون. هكذا تبقى الغنائية الميدان المميَّز لعمل الذّات وتعبيريّتها، في انحيازها للغناء كشرط لشفافية التعبير في الشعر، بمقدار ما أنّ "الرؤية الغنائية للعالم، أكانت عدوانية أو أخوية، تستمرّ على هذا النحو عن طريق السحر السامي للكلمة".
- الإيقاع:
لقرونٍ طويلة، استمرّ تعريف الشعر الغنائي: بأنّه "مجموع القصائد الشعرية التي تُرافقها القيثارة"، ومن ثمّ ارتبط هذا النّوع من الشعر، في الوعي الثقافي والنقدي العامّ، بالموسيقى والغناء. نحن بدورنا لا ننفي القول إنّه "علينا أن نتذكّر أنّ الموسيقى، في التحليل الأخير، هي جوهر الغنائيّة"، بتعبير صلاح فضل، لكن علينا أن ننظر إلى هذا الشعر داخل اشتغاله كنصّ لغويّ وجماليّ، لنُدرك مركز الثّقل الذي للموسيقى، أو بالأحرى للإيقاع الّذي يتجاوز العروض، ونُدرك خاصية الغنائيّة التي يأخذ فيها الإيقاع نفسه وضع الدالّ العضوي والجوهري بالمعنييْن الفكري والجمالي. وإذا كان الغنائية لا تزال مُحاطةً بتاريخٍ من اللّبْس والغموض، فإنّ ذلك -في تقديري- يأتي من اللّبْس الّذي شاع حول الإيقاع، والعكس بالعكس.
هنا، يجب أن نميِّز بين الإيقاع والعروض، فنعتبر الأول أوسع وأشمل للثّاني القابل للعدّ والقياس. فإذا كان العروض يُسعفنا في ضبط البنية الوزنية للبيت الشعري، فإنّ ليس له ما يُقدّمه في تحليل إيقاع الخطاب باعتباره المجموع التركيبي لكلّ العناصر التي تُسهم فيه، والتي تتمظهر في كلّ مستويات اللغة الشعرية: العروضية، النّظمية والدلالية التي تُحدّد دالّ الإيقاع وطبيعة اشتغاله داخل القصيدة الغنائية. وفي هذا السياق يرشدنا هنري ميشونيك إلى أنّ "الإيقاع بالغ الأهمية داخل اللُّغة بدلًا من الزجِّ به في العروض، العروض الّذي يقيس الأزمنة التي ليست لأحد، لأنّها ليست لا زمن المعنى، ولا زمن الذات".
لذلك، لا يُعرَّف الإيقاع بوصفه وزنيًّا أو صوتيًّا أو نبريًّا فحسب، وإنّما يتعدّى ذلك إلى الخطاب بأكمله، حيث يمكن أن يستند إلى الأبعاد الدلالية للنّظْم بمفهومه البلاغي، وذلك تبعًا لـ"حركة المعنى" وفعاليّته في تنظيم الذات داخل خطابها: المفرد والمختلف. وهذا ما يجعلنا نعتقد أنّ الإيقاع دائمًا ما شكّل مختبر المعاني والرؤى الجديدة التي لم تكفَّ الذّوات، من عصر إلى آخر، عن السعي إليها في تواريخ تفرُّدها الخاصّة.
هناك تاريخ لإيقاعاتٍ أو "عُقَدٍ إيقاعيّة" لكلّ من المتنبّي وابن زيدون والسياب ونازك الملائكة ومحمود درويش وأدونيس وسعدي يوسف وقاسم حداد، تمثيلًا لا حصرًا. فالإيقاع ليس عنصرًا شكليًّا أو مستوى أو حليةً أو مُضافًا، بل هو مبدأ بانٍ ودلاليّ يتشكّل عبر مسار إنتاج الغنائية لمعناها، مجهول معناها.
- المعنى:
على مبدأ المحاكاة تمّ التمييز بين الغنائي والملحمي والدرامي. وفي الصفحة الأولى من كتاب أرسطو طاليس "فنّ الشعر"، نجد تحديدًا واضحًا للشعر، فهو فنّ المحاكاة وبصيغة أدقّ عن طريق الوزن واللغة والموسيقى، مستثنًى منه ما أنتجه أَمْبِيدُوكْل من آتارٍ كتابية تعرض بواسطة الأبيات الموزونة موضوعًا في الطبّ أو في الطبيعيات، بمعنى أنّ أرسطو يرفض ما يُسمّى بالشعر التعليمي، أي: الشعر الّذي يفقد شعريّته في ما هو خارج الشعر.
ولقد انتبه القسّ باتو فيما بعد إلى حصر المحاكاة في "محاكاة الفنون الجميلة" التي تخضع للمبدأ نفسه، بما فيه الشعر الغنائي الّذي يتوزّع في فنون صغرى متنوّعة ومشتقّة منه. وقال: "إذ كلما تواصل الفعل كان الشعر ملحميًّا أو دراميًّا، وإذا انقطع وأصبح يرسم الحالة الوحيدة للرُّوح وإحساسها المجرَّد كان الشعر غنائيًّا: ويكفي في هذه الحالة أن نضفي على الشعر الشّكْلَ الملائم حتى يدخل حيِّز النشيد". معتبرًا أنّ الشعر الغنائي يختلف عن غيره من الأجناس الشعرية، ويتميّز عنها بخاصية واحدة: وهي موضوعه الخاصّ. فإذا كان موضوع تلك الأجناس يتمثّل أساسًا في الأفعال، فإنّ الشعر الغنائي يختصّ بالأحاسيس، فهي مادّته وموضوعه الأساسي.
وقد تكون هذه الأحاسيس المعبَّر عنها في الغنائي متصنِّعةً أو أصيلةً، لكنّها تخضع لقواعد المحاكاة الشعرية، بمعنى: أن تكون ممكنة التحقُّق ومختارةً ومكتملة كما هي في حقيقتها. وفي هذا السياق، يجب التّذكير بأن المحاكاة في التراث الكلاسيكي لا يعني التصوير المطابق للأصل، وإنّما هو حالة من الخيال.
وقد وجدنا الفلاسفة المسلمين يبنون تصوُّرهم للمحاكاة على مقولة التّخييل، وبالنتيجة على وظائف التّعجيب والغرابة واللذّة التي يستثيرها الشعر في النفس، فأرادوا بمصطلح التّخييل الدلالةَ على معنى المُحاكاة الشّعرية، ونظروا إليه بوصفه العلّة الصُّورية للشّعر، وإلى المعاني الّتي يتضمّنها الشّعر بوصفها علّته المادِّية. وكان حازم القرطاجني يرى أنّ "المعاني التي تتعلق بإدراك الحسّ هي التي تدور عليها مقاصد الشعر … والمعاني المتعلقة بإدراك الذِّهن ليس لمقاصد الشّعر حولها مدار".
من هنا، أمكننا أن نمرّ من مجرّد إمكانية التعبير الخيالي إلى وضعيّة خيالية أساسية للأحاسيس المعبَّر عنها، وأن نُوصل كلَّ قصيدةٍ غنائيّةٍ إلى النموذج المطمئنّ للحوار الداخلي المأساوي حتّى نتمكَّن من أن ندخل في جوهر كلَّ خلقٍ غنائيٍّ ذلك الفاصل من الخيال الّذي بدونه يستحيل تطبيق مفهوم المحاكاة على الشعر الغنائي، كما يرشدنا إلى ذلك جيرار جينيت.
إنّ المحاكاة والتخييل فالتصوير الّذي يتمّ بهما تحيل كلُّها على عالم الحسِّيات لا المجرَّدات، ولا يتعلق الأمر بتكرار أو تزييف. إنّ كلَّ واحدٍ منهما يمكن أن ينتج أثرًا جيّدًا، بما في ذلك المحاكيات المطابقة الّتي يمكن أن تنتج نصًّا جميلًا، لكون المحاكاة تستعين هنا بأمور لفظية ووزنية وتقفوية وأسلوبية. ولهذا الاعتبار، رُبِطت المحاكاة بوجوه البلاغة والمجاز لتوصيل المعنى وتأدية دلالاته بطراائق خاصّة غير عادية، على مستوى التشكيل والتأثير. فهي عمليّة مرتبطة بتقديم المعنى أكثر من ارتباطه بالمعنى نفسه.
لن نتتبّع المعنى في تيماتٍ معلومة ومقرّرة سلفًا، ونختصرها في نموذجٍ لغويٍّ فجّ. فالّذي يهمُّ هنا ليس المعنى، بل طريقة بلوغ المعنى؛ لأنّ البحث عن المعنى بمفرده مستقلًّا عن طريقة بلوغ المعنى أو عن البنيات، هو البقاء مقدّمًا في مستوى الدّليل. لذلك، علينا أن نسأل: ما هي وضعيّة المعنى في خضمّ الممارسات الدالّة للغنائية في الشعر؟ وما قوانين وآليّات بنائه واشتغاله الداخلي؟ وما علاقة المعنى ببنية النصّ، وسياقه وتداوله؟ وغيرها من الأسئلة التي يفرضها الوضع الاعتباري للمعنى داخل النصّ الشعري عامة، والغنائي تحديدًا. لكنّ تفكيرًا جادًّا ومختلفًا يجب أن يتجاوز الوضع الّذي ربط المعنى بميتافزيقاه، بالتعليم النفساني للأدب، وأن يبحث في المعنى بالمعنى الذي يكون فيه، بالنسبة لشعريّة الخطاب، باثًّا للدلاليّة التي تتجاوز الدليل المعجمي للكلمات عبر آثار تداعيها مع دوالّ أخرى، فلا ينفصل المعنى عن الذّات والإيقاع. إنّها، جميعًا رهن علاقة تضمينٍ متبادلة داخل الخطاب، ومتحوّلة باستمرار.
فإذا كنّا -في مرحلة أولى من البحث- ملزمين ببحث طبيعة الغنائية وعناصرها وآثار تشكُّلها في الخطاب، فإنّ ذلك لغاية إبراز عمل الذّات وهي تخترق اللغة بأقصى عنفوانها، وتبني المعنى، المعنى المغاير للمعنى المعجمي، حيث يقول معنى الغنائيّ، بطريقة الخاصّة، أهواءنا ورغباتنا وأشواقنا وخوفنا وطريقتنا في طرد هذا الخوف.
بهذا المعنى، يُفيدنا مفهوم الخطاب في التعرُّف على أشكال التجاوز التي كانت تحدث داخل مقتضيات النوع الغنائي وأنساقه العامة. ويسمح لنا هذا الشكل من التجاوز بمتابعة الغنائية كـ"شكـل حياة"، وبرصد صيغ الثبات والتحوُّل الحادثة في البنيات أو غيرها. نكون، هنا بصدد العبور من غنائيّةٍ إلى أخرى وفق استراتيجيّة الخطاب لدى هذا الشاعر أو ذاك، حيث لا يتمّ تحليل القصيدة إلّا باعتبارها كاشفةً عن اشتغال المبدأ الأنواعي للغنائية، وعن اشتغال الدوالّ المهيمنة التي تفجّر شعريّة الغنائيّة.
- قراءة الغنائيّة: محاولة نمذجة:
تُفيدُنا هذه المداخل النّظرية، في هذه اللَّحظة من تطوُّر شعرنا وما يستتبع ذلك من تبلور أشكالٍ متنوّعة ومخصوصة من الغنائيّ، أن نقارب الغنائيّة "الغنائيّات" من خلال نمْذجةِ تستوعب مجمل الخصائص والسمات الناظمة لها، بحسب أساليب الكتابة ورؤى العالم والخيارات الجماليّة الّتي ينتهجها شعراء العربيّة، من ذاتٍ إلى ذات، ومن شرْطٍ إلى آخر.
إنّ أيّ محاولة نمذجة الغنائية يقتضي -في الأعمّ- اكتشاف البنيات النصّية والأسلوبية والرمزية الّتي تحتضنها، ولا يتمّ ذلك إلّا من خلال تصوُّر واضح يسندها على تجريبيّة نصّية ذي تمثيلية متنوّعة وعابرة للتاريخ الثقافي للشعر. وأوّل شروط هذا التصوُّر تجاوز إشكال التعالي الأنواعي المحصور في شروط النظرية ومفاهيمها المجرَّدة إلى محايثة الموضوع الغنائي من خلال مبدأ التنويع بوصفه مكوِّنًا نصّيًّا يتمُّ تحديده عبر التماثلات النصّية التي يُعاد استثمارها وتحويلها وتأويلها في إطار ما يُسمّى بلعبة التكرار والمحاكاة والاقتراضات بين النصوص.
يسمح لنا ذلك بالتعرُّف على الغنائية باعتبارها خطابًا يرتبط بأنساق الكتابة وفعّاليتها في التاريخ والثقافة، ويدعونا إلى توسيعها وبناء مقتضيات قراءتها وفق سيرورة نسقيّة تأويليّة تستوعبها في نمذجة معقولة تتفرّع عنها جملةٌ من التصنيفيّات الأساسيّة، بحسب الدرجة والنوع:
أ. تصنيفية بحسب معيار الزمن قديم، حديث، معاصر.
ب. تصنيفية بحسب معيار البناء بسيط، مزدوج ومركّب.
ج. تصنيفية بحسب معيار الشكل عمودي، تفعيلي، نثري.
د. تصنيفية بحسب معيار التلفّظ محاكاة، تخييل.
هـ. تصنيفية بحسب معيار المهيمنات الإيقاعية، التيماتية، الأسلوبية.
و. تصنيفية بحسب معيار التلقّي التلقائي، الجمالي، التأويلي
avatar
تظهر التصنيفيّات متداخلة ومتراكبة ومن الصّعب أن نفصل بينها، وقد اعتمدّنا في وضعها على مبدأ التجانس وخاصية التمثيليّة بالقياس استشكال الكثرة والاختلاف والتعدّد. ويكون موضوع النمذجة، بالتالي، تعيين العلائق والاختلافات التي يُظهرها تعدُّد النص الشعري العربي واختلاف بنياته.
هكذا، نحاول أن نقدّم نمذجة أوَّلية تستوعب عددًا من صيغ الغنائية وحساسيّاتها، منها ما ينضبط للتيمات الأغراضية أو الدلالية الفروسية، الطبيعة.. ومنها ما ينشغل ببيان الفروق النوعية الحاصلة بين أكثر من شاعر بصدد موضوعٍ بعينه الحبّ، النُّزوع الصوفي.. ومنها ما يشرط المعنى باجتماعيّته الحرب والسلام، الرثاء، الغزل العذري...ومنها ما يُقارب النوع الغنائي في علاقته بأنواع الأدب والمعارف الأخرى القرآن، الأسطورة، الرموز والنماذج الأصلية، تقنيات المسرح والحكي..،إلح. وذلك تبعًا لمقولات مرنة تسمح بوضع مختلف تجارب الغنائيّة الكبرى في الشعر العربي على محكّ استراتيجية الخطاب، لمُقايسة مكوّناتها الأسلوبية والجمالية، ودرجة توتُّرها بالموضوع الغنائي.
إنّنا هنا بصدد الغنائيَّة كواقعةٍ جماليّة وتاريخيّة ترتبط بأنساق الكتابة في غير عصر وثقافة مُعطييْن، وبشروط التلقّي. فمقولة الغنائية -أكثر من غيرها- تُظْهر هذا الجوهر الأكثر وضوحًا، العابر للذّوات والأزمنة: أليْس تعتبر أوصاف الطبيعة في رحلة الجاهلي غنائيّةً متنوّعة المؤثّر الّذي يُعبّر عن جدل الذّات الصحراء؟ أيُّهما أكثر غنائيّةً، رحلتُه أم رحلة أبي نواس في تجربة اللذّة والانتشاء؟ ألا يأخذ الرثاء في شعر الخنساء وسْمَ الغنائية السوداء التي تصدر عن عاطفة الحداد، في فقْدها لأخيها صخر؟ أيّهما أكثر تعبيرًا عن إيقاع ذاتيّته، الشّنْفرى في الالتزام بتجربة اللّا انتماء؟ أم العباس بن الأحنف في انحيازه إلى الشفافيّة للبوح عمّا يعتمل في داخله من جراح الحبّ؟ أم أبو تمام في تجربة العبور إلى الكتابة؟ ثمّ ما الّذي يجمع هؤلاء بأبي الطيب المتنبي الذي تنفتح فيه غنائيّته على درْس الحكمة؟ ثمّ أليس للشعر المقطعي للموشّح غنائيّة خاصّة في احتفائها بسخاء الطبيعة، وما تجده الذّات داخلها من إحساس طافح بالعنفوان؟
وفي الشعر الحديث الّذي فجّرتْه حركة الشعر الحرّ، ألا نجد انْبِثاق غنائيّات جديدة، حيث تختبر الأنا الغنائيّة معانيَ جديدةً غير معزولةٍ عن أشكال تدبيرها للبناء النصّي وأجروميّاته؟ ألمْ تتولّد داخل الأشكال الجديدة من النوع الغنائيّ أبعادًا تستوعب الملحمي والاجتماعي والنفسي تحت وطأة الإحساس بالزمن، وتمثيلات الخراب والغربة والضياع، ليس فقط عند الروّاد من أمثال السياب وأدونيس ومحمود درويش، بل أيضًا لدى محمد الماغوط الذي يقدم إلينا من تجربة قصيدة النثر؟
وإذا كانت الغنائيّة العربية قديمًا تُعبّر -كما رأى جمال الدين بن الشيخ- عن نفسها في ثلاثة سِجلّاتٍ رئيسية: الحب، الطبيعة والفضائل الإنسانية؛ فإنّ في داخلها تكمن قائمة العواطف العظيمة التي تمثل قانون الإنسانية المشترك، ولهي نفسها تمدّ الشعر العربي الحديث بإلْهامٍ لا يستنفدها، وبأبعادٍ قادرة على حمْل دلالات جديدة في سياق اللّغة، التاريخ والمجتمع.
هكذا تظهر الغنائية كأنّها تُحدّد الجزء الأكبر من الشّعر مهما كانت الأنماط الكتابية المُتّبعة. وإذا كان النقّاد ودارسو الشعر لم يألوا جهدًا لتحديدها، لكنّها دائمًا موجودة في تجارب الشعراء، ودائمًا ما تُلْهم تلك الحركة أو الطاقة التي تستخدمها الكتابة الشعرية بحثًا عن شكل مثالي داخل اللغة، أو عن تلك "الغريزة السماوية" كما يوحي بها كمْ شاعرٌ، ويُنْشدها في تباريح الأرض.
ع2:
أي الفنين أسبق من الآخر؛ الشعر أم النثر؟
ج1:
تاريخ الأدب العربي، لعمر فروخ.

أيّهُمَا أسْبَق إلى الظهورُ الشعر أم النثر الفني؟
ولعل أول مَن أوحى بهذه الفكرة في الأدب العربي خاصة هو بروكلمان C. Brockelmann، حين أثار في فصلّي: "أولية الشعر" و"قوالب الشعر العربي" قضية أصل الشعر عند الإنسان عامة انطلاقًا من أغاني العمل الجماعي ذي الحركات الطبيعية المنتظمة، ثم أضاف يقول: "ينبغي أن يكون أقدم القوالب الفنية العربية هو السجع، أي: النثر المقفى المجرد من الوزن". و"السجع هو القالب الذي كان يصوغ العرافون والكهنة فيه كلامهم وأقوالهم. وترقى السجع إلى بحر الرجز المتألف من تكرار سببين ووتد.
ع2:
أي الفنين أسبق من الآخر؛ الشعر أم النثر؟
ج2:
مجلة العدالة العراقية، 21/ 9/ 2010، أيهما أسبق وأفضل: الشعر أم النثر؟، لعبد اللطيف المصدق.
اختلف الباحثون والدارسون العرب، قدامَى ومحدثين، حول هذا الموضوع الشائك أي: أسبقية الشعر والنثر، كما اختلفوا في المفاضلة بينهما، بل و حتى في الإقرار بوجود نثر حقيقي قبل الإسلام يمكن أن نطمئن إلى صحة وجوده. فما وصلنا من خطب وأمثال وحكم وأسجاع وأقوال مأثورة عن الجاهليين يعتبره البعض من الأدب المنحول المدسوس.

ويمكن أن نجمل هذا الموضوع في رأيين متعارضين:
- الرأي الأول: ويمثله الدكتور زكي مبارك في كتابه وأطروحته المعروفة "النثر الفني في القرن الرابع الهجري"؛ ويذهب فيه إلى تأكيد وجود نثر فني في العصر الجاهلي، له خصائصه وقيمه الأدبية والفنية، رغم ظروف التبدي التي سببت في ضياع الجزء الأعظم منه، فقد نقل الجاحظ عن عبد الصمد الرقاشي قوله: ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون، فلم يحفظ من المنثور عشره، ولا ضاع من الموزون عشره.
أما الدليل الأقوى والأنصع الذي اعتمده واستند إليه في دعم حجته، فهو القرآن الكريم؛ لأنه في نظره، يقدم صورة عن شكل هذا النثر وحالته التي كان عليها قبل ظهور الإسلام، وقبل عصر التدوين، فلا يعقل أن يخاطب القرآن قومًا إلا بأسلوب القول الشائع لديهم، كما أن التحدي والإعجاز الذي واجه به القرآن الكريم العرب لا يكون إلا لمن بلغ منهم درجة معقولة من بلاغة القول، تمكنهم من فهمه ومقارنته بفنون القول الشائعة لديهم؟!
وفي رأيي أنه إذا تأكدت صحة النصوص النثرية التي وصلتنا عن الجاهليين، على قلتها بالقياس إلى ما وصلنا من شعرهم، كما جاء في الكلام الذي نقله الجاحظ عن عبد الصمد الرقاشي، فمعنى هذا أن التزامن حاصل بين النوعين خلال مرحلة الجاهلية كلها، والتي يقدر عمرها بنحو قرن ونصف قبل البعثة النبوية، حسب تحديد الجاحظ أيضا، ولا مجال للحديث هنا عن الأسبقية إلا إذا اكتشفت نصوص نثرية جديدة لجاهلية أبعد في الزمن عن الجاهلية المتعارف عليها الآن، خاصةً وأن معظم هذه النصوص النثرية تنسب لأشخاص معمرين. وهم كانوا شعراء أصلًا، فعمرو بن كلثوم صاحب المعلقة المشهورة معدود ضمن خطباء العرب المشهورين…
- أما الرأي الثاني: الذي ينفي وجود نثري فني في العصر الجاهلي فيمثله الدكتور طه حسين ، وهو المعروف بتشكيكه في صحة شعر الجاهليين قبل أن يشكك في صحة وجود نثرهم.
وحجته في ذلك أن الحياة الأولية البسيطة التي كان يحياها العرب قبل الإسلام لم تكن تسمح لهم بقيام أي لون من ألوان النثر الذي لا يمكن أن ينشأ أو يزدهر إلا في ظل حياة مستقرة تسمح بالروية والتفكير، والعرب الجاهليون، في نظره، بخلاف ذلك؛ لأن حياتهم تقوم على الرحلة والنجعة؛ أي: أنهم مشغولون بالبحث عن مصادر الكلأ للرعي، وموارد الماء للارتواء. وكأن التفكير عنده حكر على جنس من البشر دون جنس آخر، وعلى سلالة بشرية دون أخرى !!!
وفي رأيي: إن المقابلة بين النوعين الأدبيين: الشعر والنثر، سواء على مستوى الأسبقية، أو الكمية أو الأهمية لا يمكن أن تقدم أو تؤخر شيئًا من حقيقتهما الجوهرية التي اهتدى إليها العرب قديمًا بقريحتهم الفذة، وبسلاسل اختباراتهم القاسية في الحياة وفي الإصرار على الوجود، وهي وإن اختفت كثير من ملامحها المادية من خلال الرواية والحفظ، أو من خلال النقش والخط ، كما عند غيرهم من الأمم، فلا شك أنهم قد أودعوا جزءًا مهمًّا من حقيقة حياتهم في نثرهم وشعرهم على حد سواء. إذ كان جل اعتماد العرب على اللغة في الاحتفاظ بصورة حياتهم على شحها وشظفها، بخلاف بعض الأمم القديمة التي كثيرًا ما عولت على فنون أخرى غير فنون القول، كالنحت والرسم والموسيقى والعمران وغير ذلك..
ولا يزال أمام الباحثين مجهود ضخم لرسم صورة تلك الحياة العربية الحقيقية القديمة في أذهان أجيالنا الحالية، وذلك من خلال استنطاق لغة الأدب العربي القديم استنطاقًا موضوعيًّا بعيدًا عن الميل والهوى أو التنقيص.
ومما يؤسف له حقًّا أن دارس الأدب العربي أنى اتجه في دراسته لهذا الأدب يجد نفسه محاصرًا بمجموعة من الشكوك والاتهامات: فالجاهلي منه غير أصيل ومنحول، والإسلامي ضعيف، والعباسي مصنوع مزخرف بعيد عن نبض الحياة، والوسيط منحط … وحتى تجربة "الحداثيين" التي ألغت المسافة نهائيًّا بين الشعر والنثر لم تسلم هي الأخرى من حمى التخبط والفوضى والطموح المبالغ فيه أحيانًا إلى درجة الرغبة في إقبار كل ما هم قديم ومهترئ في نظرهم، ولا ضَيْر عندهم إذا تبنوا مرجعيات أجنبية، بل لا بأس في إلغاء الأبجدية العربية واسبتدالها بأبجدية لاتينية، كما أراد سعيد عقل وبعض أنصار "القصيدة النثرية"، في منتصف القرن الماضي.
إننا في درسنا الأدبي نضيع كثيرًا من الوقت في التنظير وطرح الإشكاليات والمزايدات والمصادرات بدل التعود على مواجهة النصوص الأدبية العربية وقراءتها قراءة مباشرة، قبل أن نقرأها في خلفياتها المسبقة… حتى لا يجرفنا الفراغ والإعراض عن مواجهة النصوص القديمة بصدق واتزان إلى كثير من المنزلقات الخطيرة.
باختصار شديد علينا أولًا أن نقرأ أدبنا قبل أن نقرأ ما حوله، أما منطقتَا الشعر والنثر فليستَا معزولتين عن بعضهما كما قد يتوهم البعضُ، ولكل من الشاعر والأديب كامل الحق والحرية في تجاوز منطقته إلى منطقة الآخر، ليس على وجه التقليد الفج أو الهجوم المدمر الذي يلغي نقيضه، وإنما على وجه التكامل والتنافس الشريف في اختبار الطاقة الإبداعية التي يتساوَى فيها جميع الكتاب والشعراء.
ع3:
عمر الشعر العربي
ج1:
الحيوان، للجاحظ.

تاريخ الشعر العربي:
وأما الشعرُ فحديثُ الميلاد، صغير السنِّ، أوّلُ من نَهَجَ سبيلَه، وسهَّل الطريقَ إليه: امرؤ القيس بن حُجْر، ومُهَلْهِل بنُ ربيعة، وكُتُبُ أرِسطاطاليسَ، ومعلِّمِه أفلاطون، ثم بَطْلَيموس، وديمقراطس، وفلان وفلان، قبلَ بدِءِ الشعر بالدهور قبلَ الدهور، والأحقاب قبلَ الأحقاب.
ويدلُّ على حداثةِ الشعر، قولُ امرئ القيس بن حُجْر:

إنَّ بني عوفٍ ابتَنَوا حسنًا ضيّعه الدُّخلُلُون إذ غَدَرُوا
أدَّوا إلى جارهم خفارته ولم يَضِعْ بالمَغيب مَنْ نَصَرُوا
لا حِمْيَريٌّ وفى ولا عُدَسٌ ولا است عَيرٍ يحكها الثَّفر
لكن عُوَيرٌ وفَى بذمَّتِه لا قِصَر عابَهُ ولا عَوَرُ


فانظُرْ، كم كان عمرُ زُرارةَ وكم كان بين موت زُرارة ومولدِ النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ فإذا استظهرنا الشعرَ، وجدنا له إلى أن جاء اللّه بالإسلام خمسين ومائةَ عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام.
قال: وفضيلة الشعر مقصورةٌ على العرب، وعلى من تكلَّم بلسان العرب. والشعر لا يُستطاع أن يترجَم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حوِّل تقطَّع نظمُه وبطلَ وزنُه، وذهب حسنُه وسقطَ موضعُ التعجب، لا كالكلامِ المنثور، والكلامُ المنثور المبتدأُ على ذلك أحسنُ وأوقعُ من المنثور الذي تحوّل من موزون الشعر.
قال: وجميع الأمم يحتاجون إلى الحكم في الدين، والحكم في الصناعات، وإلى كلِّ ما أقام لهم المعاشَ وبوَّب لهم أبوابَ الفِطَن، وعرَّفهم وجوهَ المرَافق؛ حديثُهم كقديمهِم، وأسودُهم كأحمرِهم، وبعيدُهم كقريبهم؛ والحاجة إلى ذلك شاملَة لهم.
ع3:
عمر الشعر العربي
ج2:
ت. س. إليوت وأثره في الشعر العربي "السياب - صلاح عبد الصبور - محمد درويش" دراسة مقارنة، لشاهين محمد، آفاق للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، 2007.

حول تأثير "ت. إس .إليوت" في الشعر العربي الحديث:
في كتابه عن إليوت وتأثيره في الشعر العربي، يحاجج الدكتور محمد شاهين بأن هذا التأثير لم ينجح على نحو كامل، وإن أقر بوجوده، وخاصة في شعر كل من بدرشاكر السياب، وصلاح عبد الصبور، ومحمود درويش. فما هي عناصر هذا التأثير، وما هي نتائجه؟
قبل مناقشة هذه المسألة، ينبغي القول: بأن الشاعر إليوت يعد من كبار شعراء القرن العشرين. فهو يجمع بين النقد، والمسرح، والنظرية الفلسفية، والثقافية، كما أنه حائز على جائز نوبل للآداب، اعترافا له بتجديده للشعر في زمانه، وبناء ذلك على نظرية شعرية من تطويره، وتدعى بنظرية "المعادل الموضوعي" التي سنعرّج عليها خلال تحليل دراسة الدكتور شاهين، التي تتأسس على فرضية مركزية تتمثل في تأثر الشعراء العرب المذكورين أعلاه بإليوت، الذي شغل ولا يزال يشغل المنشغلين بالأدب نظرية نقدية وإنتاجا شعريا ومسرحي.
ينقسم كتاب الدكتور شاهين إلى مقدمة موجزة عن حضور إليوت في اللغة العربية، وإلى ثلاثة فصول هي كالتالي:
1- عبد الصابور وتأثير المحاكاة.
2- السياب وتأثير المعاناة: المحاكاة وعمق المعاناة
3- جدارية محمود درويش و"بروفرك" إليوت: مواجهة الانفصال بالاتصال.
إلى جانب هذه المقدمة والفصول الثلاثة، فقد خصص الدكتور شاهين قسما للهوامش، ولقصائد إليوت المترجمة إلى العربية وهي: "صورة سيدة" و"الفتاة الباكية"، و"ما قاله الرعد ـ المقطع الخامس من قصيدة الأرض اليباب"، مع نسخها الأصلية بالإنجليزية، بالإضافة إلى قصيدة السياب "أنشودة المطر"
وهنا، يتساءل المرء عن سبب عدم نشر الدكتور شاهين لقصائد كل من محمود درويش وصلاح عبد الصبور التي يعتبرها قد تأثرت بإليوت. هل ذلك ناتج عن ضيق مساحة كتابه، أم أن ذلك يعود إلى عدم ضرورة تكرار ما ذكره من مقاطع نموذجية في عرضه، ودراسته المقارنة الهادفة إلى تبيان علاقة التأثر التي هي محل التوضيح؟ من الناحية الأكاديمية، يستحسن لو قام بنشر القصائد النموذجية لكل من درويش والسياب وعبد الصبور معا، لكي يمكـّن الدارسين والقراء العاديين من إجراء المقارنة بأنفسهم على ضوء ما ذهب إليه الدكتور شاهين.
في مقدمته "إليوت في العربية - لمحمة موجزة"، يقتفي الدكتور شاهين بدايات لقاء الشعر العربي بشعر إليوت، ويبرز منذ البداية بأنه "عندما يدور الحديث عن الشعر العربي الحديث، الذي يدعى أحيانا بالشعر الحر، وعن المؤثرات الخارجية التي أسهمت في تكوينه، فإن صورة إليوت تبرز حتما في المقدمة". ولكن الدكتور شاهين يرى: "لكن الشهرة الواسعة التي حظي بها إليوت في العالم العربي لم تؤد إلى إحداث الأثر العميق والمأمول في مشهد الشعر العربي الحديث".
إن هذا الحكم يحتاج إلى تعليل، وهو ما سأنظر فيه فيما بعد. يشير الدكتور شاهين إلى جهد الكاتب والناقد المصري ماهر فريد الذي قام "بعرض موجز أشبه بببليوغرافيا وصفية لكل ما وقع تحت يده من ترجمات وكتابات بالعربية عن إليوت". ويحدد الدكتور شاهين هدفه من دراسته المقارنة الوقوف على "صدق ما جاء في عرض كل من ماهر فرويد وجبرا ابراهيم جبر" إن عرض ماهر فرويد قد لخص الموقف في أن "محاولة شعرائنا ونقادنا العرب محاكاة، ت. ن. إليوت، وهي محاولة لم تؤت ـ باستثناء حالات قليلة تعد على أصابع اليدين ـ من ثمرة غير ابتلاء شعرهم بالتكلف والحذلقة والادّعاء، وصرفهم عن واقعهم المعيشي، والقلة القليلة التي نجحت في استلهامه حققت في مواضيع قليلة وليس في كل إنتاجها، مثل لويس عوض، وبدر شاكر السياب، وصلاح عبد الصبور".
وقد لاحظ جبرا إبراهيم جبرا، كما يقول الدكتور شاهين، بأن "الأساطير والإشارات التي انطوت عليها "الأرض البياب" مثل فيلبوس الفينيقي، وتموز، والملك الصياد وغيرها من الأساطير، وجدت سبيلها إلى أعمال الكتاب العرب، لما فيها من أصل محلي كان عاملًا في تقريب أرض إليوت من محاولاتهم الشعرية والنسج على منواله".
ولكن عملية التعاطي الشعري العربي، وفقًا لملاحظة جبرا إبراهيم جبرا مع الأسطورة، لم يتجاوز الظاهر منه. ومن جهة أخرى يقول الدكتور محمد شاهين: "بأن البحث عن السبب غير المباشر وراء هذه النتيجة التي خلص إليها كل من ماهر فريد وجبرا لوجدنا أنها توضح أن شعر إليوت نفسه، بما في داخله من عمق كما يشير جبرا، قد أسهم مساهمة فعالة في منع القارئ العربي من الوصول إلى نتيجة إيجابية يتم فيها التفاعل المطلوب بين عربية القارئ وإنجليزية إليوت".
ينبغي أن نتوقف هنا قليلًا لنعقب على هذا الحكم بالقول: إن المشكلة التي يتحدث عنها الدكتور شاهين ليست بهذه العمومية وهذا التعميم. أولًا: هنالك فرق بين القارئ العربي وبين الشعراء والنقاد العرب. إنه يمكن للقراء العاديين ألا يفهموا شعر إليوت بسبب تعقيده، وتشعب مضامينه التي توغلت في شتى حقول المعرفة، والفلسفة والأساطير، والتاريخ. أما الشعراء والنقاد العرب، فقضية أخرى تختلف تمامًا عن وضعية القارئ العربي العادي. ففي تقديري فإن عدم تفاعل النقاد والشعراء العرب الحيوي والإبداعي مع شعر إليوت يعود إلى عدة أسباب، بعضها يتصل بشعر إليوت ومرجعياته الفلسفية، والرمزية والأسطورية، والتاريخية، وبعضها يتصل بالترجمة العربية، وبالنقد العربي في صلتهما بإنتاج إليوت الشعري، والنقدي، والفلسفي.
من المعروف أن شعر إليوت لم يكن سهلًا للقارئ الأوروبي نفسه، وللشعراء والنقاد والدارسين الغربيين أنفسهم أيضًا، سواء في الماضي أو في الحاضر، ألم يقل أحد النقاد الفرنسيين: بأن إليوت قد أعاد الجميع في الغرب إلى مقاعد الدراسة؟ مما لاشك فيه أن صدور شعر إليوت عن مرجعيات الفلسفة، والميثولوجيا، والتاريخ، وعن المصادر الشعرية الغربية القديمة والمختلفة، والديانات وغيرها من المرجعيات، هو العائق أمام التفاعل الأفقي المعتاد في الثقافة العربية مع شعر إليوت.
وإلى جانب ذلك، فإن معظم الكتابات العربية التي أنجزت حول شعر إليوت كانت نخبوية ولم تبسط - بدون فقدان العمق- لكي تصل إلى القارئ. وفضلًا عن ذلك، فإن شعر إليوت لم يدرس في التعليم الثانوي والجامعي على نحو واسع، مع تزامن ذلك مع تدريب الناشئة على تذوق الشعر الغربي، والتعرف على تفاصيل مرجعياته. ومن بين معالم هذا الشعر شعر دانتي، وشكسبير، والرمزيين، وبودلير وغيرهم، علما أن هؤلاء جميعا قد لعبوا أدوارا في تكوين الشاعر إليوت.
ويمكن القول: بأن ضحالة المناهج والبرامج التعليمية العربية تعد السبب الجوهري في عدم نشأة علاقة التفاعل الواعي مع شعر إليوت أو مع شعر كل من فاليري، ورامبو، وسان جون بيرس، وهلم جر. كما أن عدم تفتح المنظومة التعليمية العربية على الميراث العالمي الحضاري، والتاريخي والفلسفي، والأسطوري، يعد عاملًا من العوامل السلبية التي حالت في الماضي، ولا تزال تحول في الحاضر، دون استيعاب الثقافات العالمية ومضامينها وأشكاله.
إلى جانب هذه العوامل، فإنه يمكن ذكر عامل الترجمة في الثقافة العربية. إن الترجمات المتوفرة منذ عدة عقود إلى الآن عن شعر إليوت هي ترجمات أفراد، وغالبًا ما تكون ناقصة، وأحيانًا خاطئة، إنه لا توجد ترجمات جماعية مدققة وبإشراف المختصين في أدب إليوت، والآداب والثقافات الغربية التي نهل منها هذا الشاعر. وأكثر من ذلك، فإن الذين ترجموا بعض أعمال إليوت لم يعملوا مع هذا الشاعر عن قرب حينما كان على قيد الحياة على تذليل الصعوبات التي تعترض ترجمة هذا النص أو تلك الكلمة، أو تلك الإشارة الرمزية، علمًا أن مثل هذا العمل المشترك والجماعي هو الذي يضمن إنجاز الترجمة الأمينة والمطابقة للأصل.
ولا بد هنا من تسجيل ملاحظة أن المترجم العربي متضخم الذات، وفردي ونرجسي، حيث أنه لا يقدم ما يترجمه لزملائه ليراجعوه ويدققوه وينتقدوه أيض. إن العوامل المذكورة مجتمعة قد ساهمت في عدم جعل شعر إليوت جزءًا عضويًّا من الانشغال الحضاري العربي الجماعي. ويمكن سحب هذه الملاحـظة على أغلب الترجمات التي أنجزها مترجمون ونقاد ودارسون ومفكرون عرب للإنتاجات الأدبية والفكرية والفلسفية الغربية. لنأخذ مثلًا الترجمة العربية لأعمال الفلاسفة: هيجل، وكانط، وسارتر، ودولوز، وميرلو بونتي، وهيدغر، وهوسرل، وفوكو، ودريدا، ودوروتي، ولايبنز، وسبينوز... إلخ، إننا نجدها مبتسرةً جزئيًّا، وكثيرًا ما لا تطابق الأصل في العديد منها، فضلًا عن عدم دقة المصطلحات.
أعتقد أن الدكتور محمد شاهين يثير قضية مهمة ينبغي، التفكير فيها من أجل تجاوز نقائص الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، ومن أجل العمل جديًّا على التفتح المستمر، وعلى نحو جماعي منسجم وجاد، على الثقافات العالمية للتفاعل معها بشكل يضمن استثمار فعل المثاقفة، وفي الحلقة الثانية، سوف أناقش ما تبقى من كتاب الدكتور شاهين، وهو القسم الذي يدرس فيه تأثير الشاعر إليوت على كل من بدر شاكر السياب، وصلاح عبد الصبور، ومحمود درويش
السياب ، عبد الصبور ، درويش، كنماذج:
في الحلقة الأولى من العرض النقدي نظرت في بعض الصعوبات التي واجهها عدد من المترجمين العرب حين ترجموا جزءًا قليلًا من شعر الشاعر إليوت إلى اللغة العربية من خلال الإضاءات التي وفرها الدكتور محمد شاهين في كتابه "إليوت وأثره في الشعر العربي".
كما توقفت عند مشكلة الترجمة الفردية التي يمارسها المترجمون والدارسون عندنا، مبرزًا أن هذا النمط من الترجمة كثيرًا ما يخفق، وقليلًا ما ينجح، وأميل إلى ضرورة استبدال هذا النمط بالترجمة الجماعية مع احترام شرط التخصص. وفي هذه الحلقة الثانية والأخيرة سأنظر في أشكال التأثير التي مارسها الشاعر إليوت على كل من محمود درويش، وصلاح عبد الصبور، والسياب، منطلقًا من فرضيات الدكتور شاهين مع التعليق على منهجه والنتائج التي توصل إليها، قبل الخوض في هذه القضايا،
أرى أنه من المفيد التذكير بأن عدد الكتب التي وضعت من طرف الدارسين والنقاد العرب حول أدب إليوت تنظيرًا وشعرًا قليلةً من جهة. ومن جهة أخرى فإنها لم تجد لنفسها طريقًا إلى البرامج والكتب المقررة في التعليم الثانوي والعالي، ببلداننا مما جعلها تدور في فلك النخب الأدبية فقط وعلى نحو محتشم، ويعود هذا الوضع إلى عدة عوامل منها عدم وجود أقسام وشعب مختصة في الآداب البريطانية، والأمريكية بشكل مستقل.
وفضلًا عن ذلك، فإن الراصد للحركة النقدية الأدبية في بلداننا مجتمعة يلاحظ انحسار النقد والتواصل مع التجارب الإبداعية سواء في الغرب، أو في آسيا أو إفريقيا، أو أستراليا، وأكثر من ذلك فإن الأقسام الثقافية بصحفنا ومجلاتنا نادرًا ما تسند إلى نقاد متخصصين في نظرية الأدب، والثقافة ولهم مساهمات جدية في توجيه الحركة الفكرية والأدبية بما يخدم فتح الفضاء والمجال للمهتمين بالآداب الأجنبية ليقوموا في إطار مشروع واضح وهادف بترجمة الإنتاج الأدبي العالمي إلى اللغة العربية قصد التفاعل معه، والاستفادة منه.
إذا فتحنا سجلات الترجمة لأدب إليوت فإننا لا نجدها تتضمن كل أعماله النقدية والشعرية والمسرحية والثقافية، ورغم هذا التقصير فإنه يمكن لنا أن نذكر ترجمة الدكتور منح خوري لبعض المقالات النقدية لإليوت. ودراسة عز الدين اسماعيل التي تحدث فيها عن أدب إليوت، وأطروحة الدكتور فائق متّي حول نقد وشعر إليوت، إلى جانب ما تقدم لابد من ترجمة الدكتور إحسان عباس لكتاب الناقد الأمريكي، ف. . ماثيسن المكرس لطبيعة الشعر والنقد عند إليوت، هذا بالنسبة للنقد.
أما الترجمات لشعر إليوت فقد ذكر بعضها الدكتور محمد شاهين: إنه لا بد من التذكير أيضًا بأن الشاعر يوسف الخال، والشاعر صلاح عبد الصبور قد قامَا على التوالي بترجمة كل من قصيدة "أرض الخراب" وقصيدة "أغنية حب لألفرد بروفك" هذا بالنسبة للمشرق العربي، أما في منطقة شمال إفريقيا فإنه لا توجد -حسب متابعتي وعلمي- ترجمات للشاعر والناقد إليوت. ويمثل هذا نقصًا فادحًا حقًّا. ما دام المشرق العربي هو الأكثر اهتمامًا بهذا الشاعر، فإن علاقة التأثر بإليوت تنسحب غالبًا على شعراء هذا الفضاء الأدبي المشرقي، أكثر مما تلاحظ حصريًّا في أماكن أخرى في الجغرافية الناطقة باللغة العربية.
عبد الصبور ومحاكاة إليوت:
في الفصل المخصص لرصد مدى تأثر الشاعر المصري صلاح عبد الصبور بإليوت، يستشهد الدكتور محمد شاهين بملاحظات الدارس والناقد المصري، الدكتور عز الدين اسماعيل، بخصوص هذا التأثر. ولكن الدكتور شاهين يؤاخذ الدكتور عز الدين اسماعيل؛ لأنه "لم يحدد المصدر الذي استقى منه عبد الصبور. وهنا يسجل الدكتور شاهين بأن قصيدة "لحن" التي تضمنتها مجموعة عبد الصبور "الناس في بلادي" 1957 هي "إليوتية في مظهرها لا في مخبره". ويرى بأن هذا التأثر بقي شكليًّا. يحدد الدكتور شاهين المصدر الإليوتي لقصيدة الصبور في ثلاث قصائد لإليوت وهي "صورة سيدة"، و"أغنية العاشق ألفرد بروفرك" و"الرجال الجوف". بعد هذا التحديد للمصادر ينطلق الدكتور شاهين في عقد المقارنات ليدعم أطروحته بالحجة. وهنا أريد أن أضيف مصدرًا آخرَ لم يذكره وهو "نظرية المعادل الموضوعي" لإليوت.
وسوف أقدم فيما بدع تعريفًا مختصرًا لهذه النظرية التي هي في الحقيقة ذات أهمية بالغة في تقنية الشعر الحديث ككل. وهنا يغلق الدكتور شاهين القوسين ويتوقف عن سبر تأثيرات إليوت على صلاح عبد الصبور، ومما لا شك فيه أن الصبور لم يتأثر فقط بإليوت في قصيدة واحدة، بل فإن علاقته بإليوت تتطور بتطوره الشعري. إننا نجده في مسرحياته مثل مأساة الحلاج، والأميرة تنتظر، وليلى والمجنون، ومسافر ليل، وفي مجموعاته الشعرية "أقول لكم"، و"أحلام الفارس القديم"، و"تأملات في زمن جريح"، يستعمل تقنيات إليوت، وأحيانًا أسلوبه في التعامل مع معمار بنية القصيدة. إن قراءة متمعنة لقصيدة "الظل والصليب" في مجموعة "أقول لكم" تجعلنا نحس مباشرة بتأثرها بقصيدتي إليوت "الأرض الخراب"، و"الرجال الجوف".
ولكن لا بد من القول أن هذا التأثر لا يلغي النكهة الخاصة لشاعرية الصبور وتجربته ذات النبرة المتميزة، مما لا شك فيه أن إليوت قد أعلن في نصوصه النقدية، وخاصة في نصه الشهير "الموروث والموهبة الفردية" بأن الشاعر الجيد يسرق، أما الشاعر السيء فيقلد، وأكثر من ذلك فإنه شدد بأنه متأثر بدوره بالشعر الغربي، وخاصةً بالشاعر دانتي الذي يعتبره أعظم الشعراء. وفضلا عن ذلك فإننا نجد عدة مقتطفات في قصائد إليوت لشعراء آخرين منهم بودلير دون أن يذكر المصدر.
ويلاحظ أن التأثير شيء، وإعادة كتابة تجربة شاعر ما ونسخها بالكامل شيء آخر، أعتقد أن الذي فعله الصبور حينها بإليوت قد فعله إليوت نفسه بالتراث الشعري للشعراء السابقين أحيانًا كثيرة، ولكن كلاهما حافظَا على البنية الخاصة لتجربتيهما، أنا أتفق مع الدكتور شاهين بأن هذا السطر من قصيدة الصبور وهو :"إنني خاو ومملوء بقش وغبار"، مأخوذ بالكامل من قصيدة إليوت "رجال الجوف" مع إضافة كلمة "غبار" من عنده فقط. ولكن التجربة التي تعكسها القصيدة ليست إليوتية بالكامل وبالتفاصيل، إن تأثر الصبور بإليوت واضح ولا شك فيه، ويحتاج ليس فقط إلى التركيز على قصيدة واحدة، وإنما إلى دراسة مقارنة تامة وشاملة تأخذ بعين الاعتبار كل أعماله، وأعمال إليوت المسرحية، والشعرية، ونظرية المعادل الموضوعي الإليوتية التطوير، وليس الابتكار من حيث المصطلح على الأقل.
تأثر السياب:
خلافًا لموقف الدكتور شاهين من التأثر الذي يدعوه بالشكلي للصبور بإليوت، فإنه يرى بأن السياب قد "أفلت من سطوة هذا التأثير لتشكل أنشودته صورة قائمة بذاتها ومستقلة تماما عن المصدر". وذلك "رغم كل ما في أنشودته من ظلال استشفها من رائعة إليوت "الأرض اليباب". ولكي يقتفي الدكتور شاهين تفاعل بدر شاكر السياب مع قصيدة إليوت المذكورة راح يبحث من خلال المقارنات بين قصيدة "أنشودة المطر"، وبين "الأرض اليباب" مركزًا على المقاطع التي يلاحظ فيها تأثر السياب بإليوت.
ويستنتج في رحلته هذه بأن السياب لم يقع في المحاكاة الخارجية الشكلية، وإنما كان تأثره يتميز بأصالة تغني القارئ عن الرجوع إلى مصدر التأثير من أجل تذوق النص الجديد.
ع3:
عمر الشعر العربي

ج3:
صحيفة الرياض، إليوت وأثره في الشعر العربي، لجهاد فاضل، الأحد 27 ذي القعدة هـ - 15 نوفمبر 2009م، العدد 15119.

إليوت وأثرُه في الشعر العربي:
عندما يدور الحديث عن الشعر العربي الحديث، وعن المؤثرات الخارجية التي أسهمت في تكوينه، تبرز صورة إليوت في المقدمة. فمنذ أواسط القرن الماضي، لم يكفّ اسم إليوت عن التردد في المجلات وملاحق الصحف الأدبية المختلفة. وقد حظيت قصيدته "الأرض اليباب" باهتمام الكُتَّاب والمترجمين العرب وتعليقاتهم وتحليلاتهم على نحو لم تحظ به أي قصيدة أجنبية أخرى، أو أي عمل أدبي كُتب بلغة أجنبية. ولكثرة ما حظيت به هذه القصيدة من الاهتمام، فقد نسي البعض أنها ظهرت في العشرينيات وظلت تبدو وكأنها كتبت في خمسينيات القرن الماضي أو ستينياته على الأقل.
ولكن الشهرة الواسعة التي حظي بها إليوت في العالم العربي لم تؤد إلى إحداث الأثر العميق والمأمول في مشهد الشعر العربي الحديث. وقد تنبه بعض النقاد إلى ذلك فقام ماهر شفيق فريد بعرض موجز أشبه ببليوغرافيا وصفية لكل ما وقع تحت يده من ترجمات وكتابات بالعربية عن إليوت. وكان هذا الناقد قد عبّر عن عرضه لإليوت في العربية بتعبيره عن خيبة الأمل في ما جناه الشعر العربي من حصاد بعد زهاء عقدين أو أكثر من تجربة الحداثة.
كان لا بد من مكاشفة كهذه حتى تنجلي طبيعة الواقع الشعري العربي، وحتى يعرف القارئ العربي أين يقف فعلًا من إنتاج أدبي ازداد كمّه وهبط نوعه، وحتى يعرف الكاتب العربي المكان والكيفية اللذين ينبغي له الشروع منهما في بداية جديدة يكون من شأنها أن نعوّض القارئ العربي عما فاته، وتتيح للكاتب تقديم منتج يختلف كمّا ونوعًا عما سبق.
يبدو أنه انطلاقًا من هذه الرؤية يتصدى الدكتور محمد شاهين في كتابه الجديد: "ت. س. اليوت وأثره في الشعر العربي/ السياب صلاح عبدالصبور محمد درويش/ دراسة مقارنة"، الصادر عن دار آفاق في مصر، ليؤكد على صدق ما قاله ماهر شفيق فريد، وما قاله أيضًا من قبله جبرا إبراهيم جبرا.
يقول ماهر شفيق فريد في بحثه: "طِرادُ الإوزة البرية تعبير في الإنكليزية يراد به كل سعي عقيم لا يبلغ هدفه، ولا يتمخض إلا عن إصابة صاحبه بالإحباط ورجوعه صفر اليدين". والطراد الذي نعنيه هنا هو محاولة شعرائنا ونقادنا العرب محاكاة. س. إليوت، وهي محاولة لم تُؤتِ -باستثناء حالات قليلة تعدّ على أصابع اليدين- من ثمرة غير ابتلاء شعرهم بالتكلف والحذلقة والادعاء، وصرفهم عن واقعهم المعيش. والقلة القليلة التي نجحت في استلهامه حققت ذلك في مواضيع قليلة وليس في كل إنتاجها مثل لويس عوض وبدر شاكر السياب وصلاح عبدالصبور.
أما جبرا إبراهيم جبرا فقد ذكر في دراسة له أن إليوت قد سحر الكُتَّاب العرب المحدثين بأفكاره الريادية التي طابقت ما في نفوسهم من أفكار وهوى، وكأن إليوت أصبح الناطق باسم الحداثة عندهم. وقد جذبتهم إليه بشكل خاص مقالته "التراث والموهبة الفردية" التي يدعو فيها إلى الاهتمام بالموروث وتجديده وبعث الحياة فيه مجددًا من خلال الموهبة الفردية للشاعر، في مسعى تصبح فيه قيمة ذلك الموروث جديدة متجددة وصامدة في وجه الزمن. ومَن مِن الكتاب العرب لم تخامره فكرة التجديد في الموروث وتحديث التراث الأدبي العربي، خصوصًا الشعري منه؟
ويبدو أن قصيدة "الأرض اليباب" لإليوت تركت أثرًا بالغًا على الأدب العربي الحديث في أسبابه أن هذه القصيدة تعبِّر عن التجربة المأساوية لأوروبا بعد الحرب العالمية الأولى. وقد وجد الكتاب العرب توازيًا بين معاناتهم إثر نكبة فلسطين ومعاناة إليوت من تداعيات الحرب العالمية الثانية، إذ أصبحت أرضهم مثل أرض إليوت "يبابًا" تنتظر الغيث حتى يعيد لها الحياة. ولا شك أن الأساطير والإشارات التي انطوت عليها "الأرض اليباب" مثل فيلبوس الفينيقي، وتموز، والملك الصياد وغيرها من الأساطير، وجدت سبيلها إلى أعمال الكُتَّاب العرب لما فيها من أصل محلي كان عاملًا في تقريب "أرض" إليوت من محاولاتهم الشعرية والنسج على منوالها.
ويرى ماهر شفيق فريد وجبرا إبراهيم جبرا، أن جلّ شعرائنا المحدثين الذين تأثروا بإليوت مالوا إلى استخدام الظاهر من الأسطورة وليس الداخل منها كما فعل إليوت الذي تمكن من سبر غور الأسطورة وجعلها تشع بالأهمية عبر المستويات العليا للقصيدة.
في كتابه يدرس محمد شاهين ثلاثة شعراء عرب تأثروا بإليوت هم: بدر شاكر السياب، وصلاح عبدالصبور، ومحمود درويش. فيرى أن عبدالصبور استعان بلحن إليوت دون أن يوفق في تفكيك نغماته أما السياب فإنه سمع الأغنية من إليوت واستطاع بعد ذلك أن يمتلك مفاتيح الغناء ليصدح بلحنه الخاص، ولينشد أجمل أنشودة في الشعر العربي الحديث. ولكن مهما يكن من تأثير لإليوت على السياب، فإن السياب قد أفلت من سطوة هذا التأثير لتأتي أنشودته صورة قائمة بذاتها ومستقلة تمامًا عن المصدر. ويكفي السياب فخرًا أن قراءة "أنشودة المطر" والاستمتاع بها على حدة، أمر ممكن دون الرجوع إلى إليوت، رغم كل ما في أنشودته من ظلال استشفها من رائعة إليوت "الأرض اليباب". وهكذا حول الشاعر مصدرًا كان على دراية به إلى شاعرية أصيلة بحيث لا تكاد تظهر فيها بصمات التأثير، شأنه في ذلك شأن كل شاعر أصيل يمتلك القدرة على تحويل الأصل إلى أصل آخر لا يقل عن سابقه قدرًا وشأنًا.
كيف تأثر السياب بإليوت؟
يبدو أن السياب قد نهج نهجًا مغايرًا لعبد الصبور، حيث ضيّق من رقعة الانتقاء، ولكنه عمّق النظرة فيها. ولدى التأمل المتأني "للأرض اليباب" و"أنشودة المطر"، يجد المرء أن السياب قد وقع على واسطة العقد، وهو ما يمثله الجزء الأخير من قصيدة إليوت الذي جاء تحت عنوان: "ما قاله الرعد".
ويعد ذلك الجزء من الأرض اليباب ذروة اللحظات الإبداعية في القصيدة، ومركزها تلك اللحظات التي تشق لنا عبر الظلام المخيم على القصيدة طريقًا للأمل في الخلاص من عقم الأرض اليباب. وكأن هذا الجزء يأتي موازيًا لسلبية وانهزامية الواقع الذي تصوره أجزاء القصيدة الأخرى.
ويبدو أن السياب وجد في القصيدة ما لم يجده غيره من الشعراء العرب الذين تأثروا بإليوت. فقد وجد فيها ما خبره شخصيًّا من رغبة في التعبير عن شتات الواقع في أقسى لحظات الألم، حيث تتطهر النفس وتتكثف الرؤيا وتولد على يد الفنان الأصيل. فبمهارة الشاعر الفذ، استطاع السياب أن يقتنص تلك اللحظات ويطوّع الإيقاع فيها إلى حاجته واستعداده. وعلى هذا النحو استطاع أن ينهج نهجًا مغايرًا لعبدالصبور الذي استعار المضمون فضاع منه الإيقاع، وأصبحت قصيدته شتاتًا لا يجمع بين أجزائها المختلفة ذلك الإيقاع اللازم للمّ الشتات.
يرجع الاختلاف بين طبيعة التأثر عند كل من عبدالصبور والسياب إلى اختلاف جوهري في تكوّن الرؤية الشعرية وتركيبها عند كل منهما، فعبدالصبور مثلًا يسطو على واسطة العقد عند إليوت ويأخذها ويضعها في عقد من عنده. يشكلها ويكوِّنها قبل وصول هذه الواسطة إليه، وكأنها لم تكن في الحسبان أصلًا. وعندما تدخل على العقد أو تتداخل فيه، تبقى غريبة عنه ويبقى غريبًا عليها. وعلى نحو يدعو إلى الأسف، يصبح المقتطف وكأنه حلية فائضة في القصيدة يبطل مفعوله وينعدم تأثيره. فما الذي يجعل الأمور تسير سيرًا حسنًا عند إليوت ولا تسير كذلك عند عبدالصبور؟
إن السبب في ذلك هو أن إليوت لا يقتطف إلا ما يرى أنه سيكون نقطة انطلاق وعودة في آن واحد، من المقتطف وإليه، عندما يضعه في أي مكان من القصيدة. وهكذا ينشأ التفاعل بين المقتطف والقصيدة، أي: أن المقتطف يصبح مصدر إشعاع أو قوة. أما السياب فإنه يختلف في رؤيته لإليوت وفي مسعاه إليه. فهو لا يطمع في أية واسطة للعقد، ولا يغريه شكلها الخارجي إن عثر عليها، ولكنه يتمثل جمالها الداخلي الذي تسري فيه روحًا شعريةً جديدةً تكتسب شكلًا خارجيًّا جديدًا يصعب اكتشافه بغير الغوص في أعماق هذا الشكل، وبدون البحث عن تلك الروح الخفية التي تشكلت في البنية التحتية للقصيدة.
أي: أن السياب ينهج نهجًا مغايرًا لعبدالصبور فلا يغريه إليوت في نهجه المتميز. ويتضح ذلك عند المقارنة في النصوص. وقد حظي إليوت بتقدير شاعر عربي آخر هو محمود درويش الذي طالما اعتبره أكبر شعراء العصر، والذي كان لصوته أثر بالغ في تكوين الشعر العالمي الحديث. فإذا كان عبدالصبور قد نظر إلى إليوت على أنه غاية لم يستطع تمثلها، وإذا كان السياب قد استوعب تجربة إليوت دون التمكن من الذهاب بعيدًا في البناء عليها، فقد استطاع محمود درويش أن يتمثل الغاية وأن يستوعب التجربة، ثم تخطاهما معًا ليظهر كعادته طالعًا بصوته الخاص الذي لا يقل عن صوت إليوت روعة وتميزًا
privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى